- Sun, 22-Dec-2024
قوز النصارى
د. حسن سعيد المجمر
هذا البيت القديم الذي ما زال يسيطر على سفح الجبل الذي يتوسط حمور بالشرق كان مُحيرا لفكرنا ونحن أطفال، فكلما نظرنا إليه من بعيد تولد لدينا ألف سؤال!! لمن هذا البيت؟ ومن الذي بناه؟ كيف تمكن بناته من رفع كميات الطوب والحجر والحديد المهولة التي أوصلته لهذا الشكل المعماري المبهر؟ ومن الذي استطاع جلب المياه إلى هذا الارتفاع الشاهق؟ وكم دلو من البئر تم نشلها حتى تكفي لري أحواض اللبن؟ وهل سكنه بناته؟ وكم رتينة وفانوس ونكتوتة طاقة كانت كافية لإضاءته؟
لعل هذا البيت يعبر عن علو همة أصحابه الذين اهتموا بالتعليم وبرزوا فيه وأسهموا في تسليط الضوء على هذا الناحية القاصية من تنقسي التي كنا زغبا نعتقد أن الشمس تغيب خلفها، حتى كبرنا وأكتشفنا أنها اختلست أبهى طلة على النيل في البلد. ثم قرأنا لاحقا من يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.
كلما ذكرت حمور مر بي طائف من صديقي وجاري ختام الذي رحل شاباً وقلبه ما زال ينبض بحب البلد وأهله، وفي حمور أيضا كانت زياراتنا المتباعدة محل حكايات ينتظرها الأصدقاء في برقس وسط تنقسي الجزيرة وهؤلاء كانت فرصتهم شبه معدومة في قطع هذه المسافة إلا برفقة والديهم وهم يعبرون بنطون تنقسي الغابة أو أن هناك برينسة تحملهم لحضور مباراة فريق الجزيرة مع فريق حمور الذي كان كابتنه البارع الفائز حمور يشكل صخرة أمام هجوم الجزيرة الكاسح.
لقد ارتبطت الجبال في مخيلة معظم سكان هذه الأنحاء بأنها الحارسة للبلد والتي يقوم عليها مردة غلاظ شداد قاموا بتكسير تلك القحوف المتناثر على جنباتها، فلا أحد يصعدها إلا يوم عيد يتسابق فيه الفتيان لإثبات قوتهم وعدم خوفهم. وقد رسخت الأساطير وهناك ما يدعمها بسبب تاريخ المنطقة التي تعتبر احدى أركان الحضارة النوبية القديمة في شمال السودان.
فالذين عاشوا صباهم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانوا يطبقون بجد وصايا اجدادهم: لا تدخلوا بيت "بني اسرافيل"، لا "تلعبوا فوق قوز النصارى"، وهكذا يوجد مكان يعتقدون أن فيه مردة من الذين يسكنون معنا في هذا الكون يجب أن نبتعد عنهم، وذلك من منطقة سلب مرورا ببنقنارتي والعباسية وحمور وبكبول على مدخل دنقلا العجوز التي أتبعت سياسيا للأعزاء في الغدار.
ومن حسن حظ جيلنا فقد عشنا حتى قدم مشروع الآثار القطري على إزاحة الرمال عن قوز الكنيسة لتبرز بالفعل كنيستان بنيتا فوق بعضهما بسبب تحرك الرمال منذ تاريخ سحيق، وقد وجدت فيها رسومات مسيحية ستصبح يوما ما قبلة للسياح من حول العالم.
الدوحة: 3 أبريل 2024
Powered by Froala Editor